فصل: سورة العصر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.سورة العصر:

.تفسير الآيات (1- 3):

{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}
لما كانت لذة هذه الدنيا الظاهرة التنعم بما فيها من المتاع، وكان الإنسان مسؤولاً بما شهد به، ختم التكاثر عن ذلك النعيم متوعداً برؤية الجحيم، فكان ساكن هذه الدار على غاية الخطر، فكان نعيمه في غاية الكدر، قال دالاًّ على ذلك بأن أكثر الناس هالك، مؤكداً بالقسم والأداة لما للأغلب من التكذيب لذلك إما بالمقال أو بالحال: {والعصر} أي الزمان الذي خلق فيه أصله آدم عليه الصلاة والسلام وهو في عصر يوم الجمعة كما ورد في الحديث الصحيح في مسلم، أو الصلاة الوسطى أو وقتها الذي هو زمان صاحب هذا الشرع الذي مقداره فيما مضى من الزمان بمقدار وقت العصر من النهار أو بعضه، أو زمان كل أحد الذي هو الخلاصة بالنسبة إليه تنبيهاً له على نفاسته إشارة إلى اغتنام إنفاقه في الخير إشفاقاً من الحشر، أو وقت الأصيل لأنه أفضله بما يحويه من الفراغ من الأشغال واستقبال الراحة والحصول على فائدة ما أنفق فيه ذلك النهار، وبما دل عليه من طول الساعة وربح من كان له فيها بضاعة باختتام الأعمال وتقوض النهار، والدال على البعث، أو جميع الدهر الذي أوجد فيه سبحانه وتعالى المخلوقات وقدر فيه المقدورات بما ظهر فيه من العجائب الدالة على ما لله تعالى من العز والعظمة الداعي إلى صرف الهمة إليه وقصرها عليه: {إن الإنسان} أي هذا النوع الذي هو أشرف الأنواع لكونه في أحسن تقويم كما أن العصر خلاصة الزمان، والعصر يكون لاستخراج خلاصات الأشياء {لفي خسر} أي نقص بحسب مساعيهم في أهوائهم وصرف أعصارهم في أغراضهم لما لهم بالطبع من الميل إلى الحاضر والإعراض عن الغائب والاغترار بالفاني أعم من أن يكون الخسر قليلاً أو جليلاً بحسب تنوع الناس إلى أكياس وأرجاس، فمن كان كافراً كان في كفران، ومن كان مؤمناً عاصياً كان في خسران إن كان بالغاً في المعصية وإلا كان في مطلق الخسر، وهو مدلول المصدر المجرد، وفي هذا إشارة إلى العلم بالاحتياج إلى إرسال الرسل لبيان المرضي لله من الاعتقادات والعبادات إيماناً وإسلاماً وإدامة لذلك ليكون فاعله من قبضة اليمين وتاركه من أصحاب الشمال.
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: لما قال تعالى: {ألهاكم التكاثر} وتضمن ذلك الإشارة إلى قصور نظر الإنسان وحصر إدراكه في العاجل دون الآجل الذي فيه فوزه وفلاحه، وذلك لبعده عن العلم بموجب الطبع {إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب: 72] أخبر سبحانه أن ذلك شأن الإنسان بما هو إنسان فقال {والعصر إن الإنسان لفي خسر} فالقصور شأنه، والظلم طبعه، والجهل جبلته، فيحق أن يلهيه التكاثر، ولا يدخل الله عليه روح الإيمان {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} إلى آخرها، فهؤلاء الذين {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} [النور: 37] انتهى.
ولما كان الحكم على الجنس حكماً على الكل لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا ذلك، وكان فيهم من خلصه الله سبحانه وتعالى مما طبع عليه الإنسان بجعله في أحسن تقويم، وحفظه عن الميل مع ما فيه من النقائص، استثناهم سبحانه وتعالى لأنهم قليل جداً بالنسبة إلى أهل الخسر فقال دالاًّ بالاستثناء على أن النفوس داعية إلى الشر مخلدة إلى البطالة واللهو، فالمخلص واحد من ألف كما في الحديث الصحيح {إلا الذين آمنوا} أي أوجدوا الإيمان وهو التصديق بما علم بالضرورة مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به من توحيده سبحانه وتعالى والتصديق بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولعل حكمة التعبير بالماضي الحث على الدخول في الدين ولو على أدنى الدرجات، والبشارة لمن فعل ذلك بشرطه بالنجاة من الخسر.
ولما كان الإنسان حيواناً ناطقاً، وكان كمال حيوانيته في القوة العملية للحركة بالإرادة لا بمقتضى الشهوة القاسرة البهيمية قال تعالى: {وعملوا} أي تصديقاً بما أقروا به من الإيمان {الصالحات} أي هذا الجنس، وهو اتباع الأوامر واجتناب النواهي في العبادات كالصلاة والعادات كالبيع فكانوا بهذا مسلمين بعد أن كانوا مؤمنين فاشتروا الآخرة بالدنيا فلم يلههم التكاثر، ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية فلم يلقهم شيء من الخسر.
ولما كان الإنسان بعد كماله في نفسه بالأعمال لا ينتفي عنه مطلق الخسر- إلا بتكميل غيره، وحينئذ يكون وارثاً لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا للتكميل، وكان الدين لا يقوم، وإذا قام لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الناشئ عن نور القلب، ولا يتأتى ذلك إلا بالاجتماع، قال مخصصاً لما دخل في الأعمال الصالحة تنبيهاً على عظمه: {وتواصوا} أي أوصى بعضهم بعضاً بلسان الحال أو المقال: {بالحق} أي الأمر الثابت، وهو كل ما حكم الشرع بصحته فلا يصح بوجه نفيه من قول أو عمل أو اعتقاد أو غيره من فعل أو ترك، فكانوا محسنين، والتكميل في القوة العملية باجتلاب الخيور.
ولما كان الإنسان ميالاً إلى النقصان، فكان فاعل ذلك الإحسان معرضاً للشنآن من أهل العدوان، وهم الأغلب في كل زمان، قال تعالى: {وتواصوا} لأن الإنسان ينشط بالوعظ وينفعه اللحظ واللفظ {بالصبر} أي الناشئ عن زكاة النفس على العمل بطاعة الله من إحقاق الحق وإبطال الباطل والنفي له والمحق وعلى ما يحصل بسبب ذلك من الأذى باجتناب الشرور إلى الممات الذي هو سبب موصل إلى دار السلام، فكانوا مكملين للقوة العملية حافظين لما قبلها من العلمية، وذلك هو حكمة العبادات فإن حكمة الشيء هي الغاية والفائدة المقصودة منه، وهي هنا أمران: خارج عن العامل وهو الجنة، وداخل قائم به وهو النور المقرب من الحق سبحانه وتعالى، واختير التعبير بالوصية إشارة إلى الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستعمال اللين بغاية الجهد، والصبر هو خلاصة الإنسان وسره وصفاوته وزبدته وعصارته، الذي لا يوصل إليه إلا بضغط الإنسان لنفسه وقسرها على أفعال الطاعة وقهرها على لزوم السنة والجماعة حتى يصير الصبر لها بالتدريب عادة وصناعة، فقد عانق آخرها أولها، وواصل مفصلها موصلها، وهي أربع عشرة كلمة تشير إلى أن في السنة الرابعة عشرة من النبوة يكون الإذن في الجهاد الذي هو رأس الأمر بالمعروف بالفعل لإظهار الحق وهي سنة الهجرة التي تم فيها بدره، وعم نوره وقدره، وجم عزه ونصره، فإذا ضممت إليها أربع كلمات البسملة كانت موازية في العدد لسنة خمس من الهجرة، وكان فيها غزوة بدر الموعد وغزوة الأحزاب، وقد وقع فيهما أتم الصبر من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ممن وافقه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم لإظهار الحق والصواب، فإنهم في بدر خذلوا من ركب عبد القيس أو من نعيم بن مسعود وموافقة المنافقين وخوفوا حتى كاد يعمهم الرعب والفشل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد» وأنزل الله فيها {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا} [آل عمران: 173] الآيات، وفي الأحزاب زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وأسفرت عاقبة الصبر فيها عما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذهابهم: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا» فإذا ضممت إليها الضمائر الأربعة أشارت إلى سنة تسع، وقد كانت فيها غزوة تبوك وهي غزوة العسرة لما كان فيها من الشدة التي أسفرت عاقبة الصبر فيها عن إقبال الوفود، بفخامة العز والجدود وتواتر السعود، بلطف الرحيم الودود، وبذلك كان نور الوجود، وتواتر الفضل والجود من الإله المعبود- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه خيار الوجود.

.سورة الهمزة:

.تفسير الآيات (1- 9):

{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)}
لما بين الناجين من قسمي الإنسان في العصر، وختم بالصبر، حصل تمام التشوف إلى أوصاف الهالكين، فقال مبيناً لأضلهم وأشقاهم الذي الصبر على أذاه في غاية الشدة ليكون ما أعد له من العذاب مسلاة للصابر: {ويل} أي هلاك عظيم جداً {لكل همزة} أي الذي صار له الهمز عادة لأنه خلق ثابت في جبلته وكذا {لمزة} والهمز الكسر كالهزم، واللمز الطعن- هذا أصلهما، ثم خصا بالكسر من أعراض الناس والطعن فيهم، وقال ابن هشام في تهذيب السيرة: الهمزة الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه عليه ويهمز به، واللمزة الذي يعيب الناس سراً- انتهى. وقال البغوي: وأصل الهمز الكسر والعض على الشيء بالعنف، والذي دل على الاعتياد صيغة فعل بضم وفتح كما يقال ضحكة للذي يفعل الضحك كثيراً حتى صار عادة له وضرى به، والفعلة بالسكون للمفعول وهو الذي يهمزه الناس ويلمزونه، وقرئ بها وكأنه إشارة إلى من يتعمد أن يأتي بما يهمز به ويلمز به فيصير مسخرة يضحك منه- والله أعلم.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما قال سبحانه وتعالى {إن الإنسان لفي خسر} أتبعه بمثال من ذكر نقصه وقصوره واغتراره، وظنه الكمال لنفسه حتى يعيب غيره، واعتماده على ما جمعه من المال ظناً أنه يخلده وينجيه، وهذا كله هو عين النقص، الذي هو شأن الإنسان، وهو المذكور في السورة قبل، فقال تعالى: {ويل لكل همزة لمزة} فافتتحت السورة بذكر ما أعد له من العذاب جزاء له على همزه ولمزه الذي أتم حسده، والهمزة العياب الطعان واللمزة مثله، ثم ذكر تعالى ماله ومستقرة بقوله: {لينبذن في الحطمة} أي ليطرحن في النار جزاء له على اغتراره وطعنه انتهى.
ولما كان الذي يفعل النقيصة من غير حاجة تحوجه إليها أقبح حالاً وكان المتمول عندهم هو الرابح، وهم يتفاخرون بالربح ويعدون الفائز به من ذوي المعالي، قال مقيداً ل {كل} بالوصف مبيناً الخاسر كل الخسارة: {الذي جمع} ولما كان مطلق الجمع يدل على الكثرة جاء التشديد في فعله لأبي جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي، وخلت تصريحاً بما علم تلويحاً ودلالة على أن المقصود به من جعل الدنيا أكبر همه، والتخفيف لمن عداهم اكتفاء بأصل مدلوله بخلاف عدد، فإن مجرده يكون لما قل، ولهذا أجمعوا على التضعيف فيه: {مالاً} أي عظيماً، وأكد مراد الكثرة بقوله: {وعدده} أي جعله بحيث إذا أريد عدده طال الزمان فيه وكثر التعداد، أو ادخره وأمسكه إعداداً لما ينوبه في هذه الدنيا المنقضية، وزاده قيداً آخر في بيان حاله فقال: {يحسب} لقلة عقله {أن ماله} أي ذلك الذي عدده {أخلده} أي أوصله إلى رتبة الخلد في الدنيا، فأحب ذلك المال كما يحب الخلود، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن أنه عمل- بانهماكه في المعاصي والإعراض عن الله عز وجل والإقبال على التوسع في الشهوات والأعراض الزائلات- عمل من يظن أنه لا يموت، ويجوز أن يكون استئنافاً، وفيه تعريض بأنه لا يفيد الخلد إلا الأعمال الصالحة المسعدة في الدار الآخرة.
ولما كان هذا الحسبان لشدة وهيه وبيان ضعفه لا يحتاج إلى إقامة دليل على فساده، اكتفى فيه بأداة الردع الجامعة لكل زجر فقال: {كلا} أي لا يكون ما حسبه لأنه لا يكون له ما لا يكون لغيره من أمثاله بل يموت كما مات كل حي مخلوق.
ولما كان كأنه قيل: فما الذي يفعل به بعد الموت؟ قال مقسماً دالاًّ باللام الداخلة على الفعل على القسم: {لينبذن} أي ليطرحن بعد موته طرح ما هو خفيف هين جداً على كل طارح كما دل عليه التعبير بالنبذ وبالبناء للمفعول {في الحطمة} أي الطبقة من النار التي من شأنها أن تحطم أي تكسر وتهشم بشدة وعنف كل ما طرح فيها فيكون أخسر الخاسرين، وعبر بها في مقابلة الاستعداد بالمال الحامل على الاستهانة بالخلق، قال الأستاد أبو الحسن الحرالي: فلمعنى ما يختص بالحكم يسمي تعالى باسم من أسمائها من نحو جهنم فيما يكون مواجهة ومن نحو الحطمة فيما يكون جزاء لقوة قهر واستعداد بعدد، ونحو ذلك في سائر أسمائها، وعظم شأنها سبحانه وتعالى بقوله: {وما أدراك} أي وأيّ شيء أعلمك ولو بمحاولة منك للعلم واجتهاد في التعرف مع كونك أعلم الخلق {ما الحطمة} أي ما الدركة النارية التي سميت هذا الاسم لهذه الخاصية فإنه ليس في الوجود الذي شاهدتموه ما يقاربها ليكون مثالاً لها، ثم فسرها بقوله: {نار الله} أي الملك الأعظم الذي عدل المشركون عنه إلى شركائهم، فعظمة هذه النار من عظمته، وانتقامه من نقمته {الموقدة} أي التي وجد وتحتم إيقادها بإيقاده، ومن الذي يطيق محاولة ما أوقده؟ فهي لا يزال لها هذا الاسم ثابتاً.
ولما وصف الهامز الهازم، وصف الحاطم فقال تعالى: {التي} ولما كان لا يطلع على أحوال الشيء إلا من قبله علماً قال: {تطلع} اطلاعاً شديداً {على الأفئدة} جمع فؤاد وهو القلب الذي يكاد يحترق من شدة ذكائه، فكان ينبغي أن يجعل ذكاءه في أسباب الخلاص، واطلاعها عليه بأن تعلو وسطه وتشتمل عليه اشتمالاً بالغاً، سمي بذلك لشدة توقده، وخص بالذكر لأنه ألطف ما في البدن وأشده تألماً بأدنى شيء من الأذى، ولأنه منشأ العقائد الفاسدة ومعدن حب المال الذي هو منشأ الفساد والضلال، وعنه تصدر الأفعال القبيحة.
ولما كان الاطلاع على الفؤاد مظنة الموت، وفي الموت راحة من العذاب، أشار إلى خلودهم فيها وأنهم لا يموتون ولا ينقطع عنهم العذاب، فقال مؤكداً لأنهم يكذبون بها: {إنها} وأشار إلى قهرهم وغلبتهم فقال: {عليهم} وآذن بسهولة التصرف في تعذيبهم وانقطاع الرجاء من خلاصهم بقوله معبراً باسم المفعول: {مؤصدة} أي مطبقة بغاية الضيق، من أوصدت الباب- إذا أطبقته.
ولما كانت عادتهم في المنع من التصرف أن يضعوا خشبة عظيمة تسمى المقطرة فيها حلق توثق فيها الرجل، فلا يقدر صاحبها بعد ذلك على حراك، قال مصوراً لعذابهم بحال من ضمير {عليهم}: {في} أي حال كونهم موثقين في {عمد} بفتحتين وبضمتين جمع عمود {ممددة} أي معترضة كأنها موضوعة على الأرض، فهي في غاية المكنة فلا يستطيع الموثق بها على نوع حيلة في أمرها فهو تأكيد ليأسهم من الخروج بالإيثاق بعد الإيصاد، وهذا أعظم الويل وأشد النكال، فقد رجع آخرها إلى أولها، وكان لمفصلها أشد التحام بموصلها والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.

.سورة الفيل:

.تفسير الآيات (1- 5):

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}
لما قدم في الهمزة أن كثرة الأموال المسببة بالقوة بالرجال ربما أعقبت الوبال، دل عليه في هذه بدليل شهودي وصل في تحريقه وتغلغله في الأجسام وتجريفه إلى القلوب في العذاب الأدنى كما ذكر فيما قبلها للعذاب الأكبر الأخفى، محذراً من الوجاهة في الدنيا وعلو الرتبة، مشيراً إلى أنها كلما عظمت زاد ضررها بما يكسبه من الطغيان حتى ينازع صاحبها الملك الأعلى، ومع كونه شهودياً فللعرب ولاسيما قريش به الخبرة التامة، فقال مقرراً منكراً على من يخطر له خلاف ذلك: {ألم تر} أي تعلم علماً هو في تحققه كالحاضر المحسوس بالبصر، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم وإن لم يشهد تلك الوقعة فإنه شاهد آثارها، وسمع بالتواتر مع إعلام الله له أخبارها، وخصه صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأن ذلك لا يعلمه ويعمل به إلا هو صلى الله عليه وسلم ومن وفقه الله الحسن اتباعه، لما للإنسان من علائق النقصان، وعلائق الحظوظ والنسيان، وقرئ {تر} باسكان الراء، قالوا جداً في إظهار أثر الجازم، وكان السر في هذه القراءة الإشارة إلى الحث في الإسراع بالرؤية إيماء إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر، من لم يعتن به ويسارع إلى تعمده لا يدركه حق إدراكه.
ولما كان للناظر في الكيفية من التدقيق والوقوف على التحقيق في وجوه الدلالات على كمال علم الله وقدرته وإعزاز نبيه بالإرهاص لنبوته والتمكين لرسالته لتعظيم بلده وتشريف قومه ما ليس للناظر إلى مطلق الفعل قال: {كيف} دون أن يقول: ما {فعل} أي فعل من له أتم داعية إلى ذلك الفعل، وفعل الرؤية معلق عن {كيف} لما فيه من معنى الاستفهام فلا يتقدم عامله عليه، بل ناصبه فعل، وجملة الاستفهام في موضع نصب بالفعل المعلق {ربك} أي المحسن إليك ومن إحسانه إحسانه إلى قومك بك وبهذه الواقعة الخارقة للعادة إرهاصاً لنبوتك كما- هو معلوم من أخبار الأنبياء المتقدمين فيما يقع بين أيدي نبواتهم من مثل ذلك ليكون مؤيداً لادعائهم النبوة بعد ذلك، وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالخطاب والتعبير بالرب مع التشريف له والإشارة بذكره التعريض بحقارة الأصنام التي سموها أرباباً لهم، يعلم ذلك منهم علم اليقين من آمن، ومن استمر على كفره فسيعلم ذلك حق اليقين عندما يسلط الله عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم بالبلد الحرام، ويحلها له على أعلى حال ومرام {بأصحاب الفيل} أي الذين قصدوا انتهاك حرمات الله سبحانه وتعالى فيخربوا بيته ويمزقوا جيرانه بما أوصلهم إلى البطر من الأموال والقوة التي منّ عليهم سبحانه وتعالى بها، فحسبوا أنها تخلدهم فبان أنها توردهم المهالك ضد ما حسبوه، وهم الحبشة الذين كانوا غلبوا على بلاد اليمن، بنى أميرهم وهو أبو يكسوم أبرهة بن الصباح الأشرم بيعة بصنعاء وسماها القليس وزن قبيط، وأراد أن يصرف إليها- فيما زعم- حج العرب، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً- يعني تغوط ولطخها به، فأغضب ذلك الأشرم فسأل فقيل له: نرى الفاعل من أهل البيت الذي بمكة- فحلف: ليهدمنَّ الكعبة، ومن عجائب صنع الله أنه ألهمه سبحانه وتعالى تسميتها هذا الاسم الذي هو مشتق من القلس الذي أحد معانيه أنه ماء خرج من الحلق ملء الفم، فهو مبدأ القيء الذي هو أخو الغائط الذي آل أمرها إليه، فكان سبب هلاكها بهلاك بانيها، وذلك أنه غضب من ذلك فخرج بجيشه لهدم بيت الله الكعبة ومعه أفيال كثيرة منها فيل عظيم اسمه محمود، فقاتله بعض العرب فهزمهم وقتل منهم، فلما دوّخهم دانوا له، فلما وصل إلى المغمس خرج إليه عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم، وقيل: بل كانت طلائعه أخذت له مائتي بعير فطلبها منه فقال: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، فزهدت فيك حين تكلمني في مائتي بعير، وتترك كلامي في بيت هو دينكم وفي عزكم؟ فقال: أنت وذاك، فرد عليه إبله فساقها ومضى، وأمر قريشاً أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في الجبال، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول:
يا رب لا أرجو لهم سواكا ** فامنعهم أن يقربوا قراكا

وقال:
لا هم إن المرء يم ** نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم ** ومحالهم عدواً محالك

جروا جميع تلادهم ** في الفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم ** جهلاً وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكع ** بتنا فأمر ما بدا لك

ثم ترك الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه فلما أصبح أبرهة تهيأ للدخول إلى الحرم وعبأ جيشه وقدم الفيل فبرك فعالجوه فلم تفد فيه حيلة، فوجهوه إلى غير الحرم فقام يهرول فوجهوه إلى الحرم فبرك، وكان هذا دأبه في ذلك اليوم فبينما هم كذلك إذا أرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل، كل طائر منها في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، الحجر منها أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة، فرمتهم بها، فكان الحجر منها يقع في رأس الرجل فيخرج من دبره فهلكوا جميعاً، وأهل مكة ومن حضر من العرب في رؤوس الجبال- ينظرون إلى صنع الله تعالى بهم وإحسانه إليهم- أي أهل مكة- وكان ذلك إرهاصاً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك كان عام مولده، وقال حمزة الكرماني: وفي رواية: يوم مولده، وكأنه كان سبباً لضعفهم حتى ذهب سيف بن ذي يزن إلى كسرى وأتى منه بجيش فاستأصل بقيتهم- كما هو مشهور في السير، ومأثور في الخبر، ووفدت قريش لتهنئته بالنصرة عليهم، وكان رئيسهم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وبشره سيف بأنه يولد له ولد اسمه محمد فأعلمه بأن ولد وأن أباه توفي، فأخبره سيف بأنه النبي المبعوث في آخر الزمان، وأن يثرب مهاجره، وأنه لو علم أنه يعيش إلى زمن بعثته لأتى يثرب وجعلها قراره حتى ينصر النبي صلى الله عليه وسلم بها- ويظهر نبوته.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة الهمزة ذكر اغترار من فتن بماله حتى ظن أنه يخلده وما أعقبه ذلك، أتبع هذا أصحاب الفيل الذين غرهم تكاثرهم، وخدعهم امتدادهم في البلاد واستيلاؤهم حتى هموا بهدم البيت المكرم، فتعجلوا النقمة، وجعل الله كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، أي جماعات متفرقة، ترميهم بحجارة من سجيل حتى استأصلتهم وقطعت دابرهم فجعلهم كعصف مأكول، وأثمر لهم ذلك اغترارهم بتوفر حظهم من الخسر المتقدم- انتهى.
ولما قرره بالكيفية تنبيهاً على ما فيها من وجوه الدلالة على مقدمات الرسالة، أشار إلى تلك الوجوه مقدماً عليها تقريراً آخر جامعاً لقصتهم ومعلماً بغصتهم فقال: {ألم يجعل} أي بما له من الإحسان إلى العرب لاسيما قريش {كيدهم} أي في تعطيل الكعبة بتخريبها وبصرف الحج إلى كنيستهم على زعمهم وقد كان كيدهم عظيماً غلبوا به من ناوأهم من العرب {في تضليل} أي مظروفاً لتضييع عما قصدوا له من نسخ الحج إلى الكعبة أولاً ومن هدمها ثانياً وإبطال وبعد عن السداد وإهمال بحيث صار بكونه مظروفاً لذلك معموراً به لا مخلص له منه، وهذا مشير إلى أن كل من تعرض لشيء من حرمات الله كبيت من بيوته أو ولي من أوليائه أو عالم من علماء الدين وإن كان مقصراً نوع تقصير وقع في مكره، وعاد عليه وبال شره «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» وإلى أن من جاهر بالمعصية أسرع إليه الهلاك بخلاف من تستر، وإلى أن الله تعالى يأتي من يريد عذابه من حيث لا يحتسب ليدوم الحذر منه ولا يؤمن مكره ولو كان الخصم أقل عباده، لم يخطر للحبشة ما وقع لهم أصلاً ولا خطر لأحد سواهم أن طيوراً تقتل جيشاً دوّخ الأبطال ودانت له غلب الرجال، يقوده ملك جبار كتيبته في السهل تمشي ورجله على القاذفات في رؤوس المناقب.
ولما كان التقدير: فمنعهم من الدخول إلى حرم إبراهيم عليه الصلاة والسلام فضلاً عن الوصول إلى بلده الرسول صلى الله عليه وسلم، عطف عليه أو على {يجعل} معبراً بالماضي لأنه بمعناه وهو أصرح والتعبير به أقعد قوله؛ {وأرسل} وبين أنه إرسال عذاب بقوله: {عليهم} أي خاصة من بين من كان هناك من كفار العرب، وأشار إلى تحقيرهم وتخسيسهم عن أن يعذبهم بشيء عظيم لكونهم عظموا أنفسهم وتجبروا على خالقهم بالقصد القبيح لبيته فقال تعالى معلماً بأنه سلط عليهم ما لا يقتل مثله في العادة: {طيراً} وهو اسم جمع يذكر على اللفظ، ويؤنث على المعنى، وقد يقع على الواحد، ولذلك قال مبيناً الكثرة {أبابيل} أي جماعات كثيرة جداً متفرقة يتبع بعضها بعضاً من نواحي شتى فوجاً فوجاً وزمرة زمرة، أمام كل فرقة منها طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، قال أبو عبيدة: يقال: جاءت الخيل أبابيل من هاهنا وهاهنا، وهو جمع إبالة بالكسر والتشديد وهي الحزمة الكبيرة- شبهت بها الجماعة من الطير في تضامّها، وفي أمثالهم: ضغث على إبالة، أي بلية على أخرى.
ولما تشوف السامع إلى فعل الطير بهم، قال مستأنفاً: {ترميهم} أي الطير {بحجارة} أي عظيمة في الكثرة والفعل، صغيرة في المقدار والحجم، كان كل واحد- منها في نحو مقدار العدسة، في منقار كل طائر منها واحد وفي كل رجل واحد.
ولما كان الشيء إذا كان مصنوعاً للعذاب كان أشد فعلاً فيه قال: {من سجيل} أي طين متحجر مصنوع للعذاب في موضع هو في غاية العلو كما بين في سورة هود عليه الصلاة والسلام، قال حمزة الكرماني: قال أبو صالح: رأيت تلك الحجارة مخططة بالحمرة. ولما تسبب عن هذا المرمى هلاكهم، وكان ذلك بفعل الله سبحانه وتعالى القادر على ما أراد لأنه الذي خلق الأثر قطعاً لأن مثله لا ينشأ عنه ما نشأ من الهلاك، قال: {فجعلهم} أي ربك المحسن إليك بإحسانه إلى قومك لأجلك بذلك {كعصف مأكول} أي ورق زرع وقع فيه الأكال وهو أن يأكله الدود ويجوفه لأن الحجر كان يأتي في الرأس فيخرق بما له من الحرارة وشدة الوقع كل ما مر به حتى يخرج من الدبر ويصير موضع تجويفه أسود لما له من النارية، أو أكل حبة فبقي صفراً منه أو كتبن أكلته الدواب وراثته، ولكنه جاء على ما عليه آداب القرآن كقوله تعالى: {كانا يأكلان الطعام} [المائدة: 75] وهذا الإهلاك في إعجابه هو من معاني الاستفهام التقريري في أولها، فقد تعانق طرفاها، والتف أخراها بأولاها- والله أعلم بمراده.